الجمعة 30 جمادى الآخرة 1442 م

الموافق 12 فبراير 2021 م

 

الحمد لله الواحد القهار، الملك العزيز الجبار، الذي قضى بزوال هذه الدار، وهدم بالموت مشيد الأعمار، وجعل في تعاقب الليل والنهار عبرة لأولي الأبصار، ونشهد أن لا إله  إلا الله وحده لا شريك له ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله المصطفى المختار القدوة المثلى في العمل لليوم الآخر وعدم الركون لهذه الدار، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله الأطهار، وصحبه الأبرار، وتابعيه الأخيار، إلى يوم البعث لدار القرار.

أمّا بعد: فيا عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى :(وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)

معاشر المسلمين: إن الله تبارك وتعالى جعل لانتهاء هذه الدنيا وزوالها وقتاً محدداً وأجلاً مقدراً فإذا جاء الأجلُ المحتوم والأمد المقدر؛ قامت الساعة في يوم متحققِ الوقوع؛ تظهر فيه الأمور على حقيقتها، ويغشى القلوب بأهواله وإذا بالخلائق قائمة لله رب العالمين؛ قال تعالى: (أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ، لِيَوْمٍ عَظِيمٍ، يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) وقال سبحانه: (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا، قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ، ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ، وَذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) وقال صلى الله عليه وسلم: (وَاللهِ لَتَمُوتُنَّ كَمَا تَنَامُونَ، وَلَتُبْعَثُنَّ كَمَا تَسْتَيْقِظُون، وَلَتُجْزَون بالإحسَانِ إِحسَاناً، وَبالسُّوءِ سُوءاً) ولقد وصف الله سبحانه يوم القيامة بصفاتٍ تدل على هوله وشدته؛ ومخوِّفاً عباده من أليمِ عقابه… إن يوم القيامة يا عباد الله يوم طويل ثقيل، وشرّه مستطير؛ حيث إن فيه من الأهوال ما يشيب الولدان ويغيِّب عقلَ الوالدة عن رضيعها، وتُسقط الحامل حملها وإذا بالأهوال تقرع قلوب الناس لما يصيبها من الهول والفزع؛ قال تعالى:( فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً) وقال جل وعلا: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) ولله در القائل:

وَإِذَا الْجَنِينُ بِأُمِّهِ مُتَعَلَّقٌ

خَوْفَ الْحِسَابِ وَقَلْبُهُ مَذْعُورُ

هَذَا بِلا ذَنْبٍ يَخَافُ لِهَوْلِهِ

كَيْفَ الْمُقِيمُ عَلَى الذُّنُوبِ دُهُورُ

وإذ بالناس يقول كلٌّ منهم: نفسي نفسي؛ ويفُّر بعضهم من بعض، حتى إن المرء ليفر من أحب الناس إليه في هذه الدنيا، له شأن ولهم شأن؛ يرجو نجاة نفسه وفكاكها؛ (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصَـاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ، لِكُلِّ امْرِىء مِنْهُمْ يَوْمَئِذ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) ولحكمته البالغة فقد استأثر الله سبحانه بعلم الساعة؛ فلم يُطلع عليه أحداً من خلقه؛ لا مَلَكاً مقرباً؛ ولا نبياً مرسلاً؛ فإذا أذن الله بانصرام هذه الدنيا؛ وانتهاء أجلها؛ وأفول شمسها؛ أمر إسرافيل عليه السلام أن ينفخ في الصور والصورُ قرن عظيم كهيئة البوق- الله أعلم بكيفيته- وقد التقمه إسرافيل- منذ زمن بعيد؛ وأصغى بأُذُنِه منتظراً الأمر بالنفخ وهذا دليل على قرب الساعة؛ وأنها كلمح البصر أو هو أقرب.. فيُنفَخ فيه نفختان؛ نفخة صعق وإماتة؛ ونفخة البعث؛ قال تعالى: (وَنُفِخَ فِى ٱلصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِى ٱلْأَرْضِ إِلَّا مَن شَآءَ ٱللَّهُ ۖ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ). فالنفخة الأولى للأحياء آنذاك والنفخة الثانية لبعث جميع المخلوقات؛ فيبعثون من قبورهم؛ ومن مات حرْقاً؛ ومن مات غَرَقاً؛ ومن مات في بطون السباع؛ (إنه على رجعه لقادر) ؛ فإذا نفخ في الصور النفخةُ الأولى؛ يقبض الله تبارك وتعالى الأرضَ ويطوي السماء بيمينه؛ ثم يقول: أنا الملك؛ أين ملوك الأرض؟ أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ويقول سبحانه: لمن الملك اليوم؟ لمن الملك اليوم؟ ثم يجيب نفسه سبحانه: لله الواحد القهار؛ وكل هذا مما ورد على لسان الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم في أحاديث صحيحة متواترة. ثم يرسل الله سبحانه المطرَ؛ فتنبتُ أجسادُ الناس، ثم يكون بين النفختين أمدٌ الله أعلم به، ثم ينفخ في الصور النفخة الثانية فإذا بالناس يبعثون من قبورهم؛ وهنا يُبعث الناس فتنشق عنهم قبورهم؛ وأول من ينشق عنه القبر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ؛ فإذا بعث الله سبحانه الخلائقَ حشِروا في أرض المحشر لمجازاتهم ومحاسبتهم؛ قال تعالى: (قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) وقال تعالى: (وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً) فيحشر الناس حفاة عراة غرلاً- أي غير مختونين- ليس معهم شيء؛ قد خلفوا كلَّ شيء وراءهم وقدموا على خالقهم؛ فيحشرون على أرض بيضاءَ خالصةِ البياض؛ مبسوطة؛ لم يسفك فيها دمٌ حرامٌ ، ولم يعمل عليها خطيئة.

وفي الحشر يعاني الناس الضيقَ الشديد؛ وتُدنى الشمس من الخلائق فتكون على قدر ميل من رؤوسهم، ويعرق الناس على قدر ذنوبهم؛ فمنهم من يصل العرق إلى كعبيه؛ ومنهم من يصل إلى وسطه ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً فإذا كان الناس يعانون حرارة الشمس وهي تبعد عنهم آلاف الكيلومترات فكيف إذا اقتربت؟ اللهم سلم، سلم!!

وفي هذا الموقف العصيب؛ مِن الناس مَن يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلى ظله؛ منهم: إمام عادل؛ ورجل قلبه معلق في المساجد؛ ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه؛ ورجل دعته امرأةٌ ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله؛ وشاب نشأ في طاعة الله؛ ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه؛ ورجل تصدق بصدقةٍ فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه؛ ومَن أنظر معسراً أو وضع عنه. وإذا أصاب الناسَ الكربُ فزعوا ونظروا إلى من يخلصهم ويشفع لهم عند خالقهم لفصل القضاء؛ فيأتون آدم عليه السلام فيقولون: ألا تشفع لنا؛ ألا ترى ما نحن فيه؟ ليقض بيننا ربك إما إلى الجنة وإما إلى النار؛ فيقول: نفسي نفسي؛ إن الله قد غضب اليوم غضباً؛ لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، اذهبوا إلى نوح، فيأتونه فيقول:نفسي نفسي؛ اذهبوا إلى إبراهيم؛ فيأتونه فيقول: نفسي نفسي؛ اذهبوا إلى موسى، فيأتونه فيقول: نفسي نفسي؛ اذهبوا إلى عيسى؛ فيأتونه فيقول :نفسي نفسي؛ اذهبوا إلى محمد (فإذا كان الأنبياء يقول أحدهم: نفسي نفسي فكيف بغيرهم؟ وكيف بمن كسب الذنوب ؟ ألا فرحماك ربنا رحماك  فيأتون محمداً صلى الله عليه وسلم فيقولون: ألا تشفع لنا ؟ ألا ترى ما نحن فيه؟ فيقول:أنا لها؛ أنا لها . يقول صلى الله عليه وسلم: فأسجد تحت العرش؛ ويلهمني ربي من المحامد ما لا أعرفه اليوم، فيقال لي: يا محمد ارفع رأسك؛ وسل تعط؛ واشفع تشفّع، فأقول:يا رب: أمتي أمتي  .. بأبي هو وأمي؛ ما قال: فاطمة؛ ولا قال خديجة ولا قال عائشة، بل قال:أمتي؛ فتباً لمن أعرض عن هداه.. فيشفع عند ربه، فيجيءُ الله تعالى مجيئاً يليق بجلاله لفصل القضاء بين الناس؛ (كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكاً دَكاً، وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّاً صَفًّاً) ولا يتم فصل القضاء بين الخلائق إلا بشفاعة محمدٍ صلى الله عليه وسلم، منةً امتن الله بها عليه؛ وهي الوسيلة والمقام المحمود الذي أمرنا صلى الله عليه وسلم أن نسأل الله جل وعلا أن يبلغه إياها . ثم يأذن الله تعالى بالحساب؛ ويُطلِع سبحانه عباده على أعمالهم ويقررهم بها ؛ فمِن مُجازى ومِن معفوٍّ عنه؛ قال تعالى:( إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ) فمن الناس من يحاسب حساباً شديداً يُناقَشُ فيه على أعماله فهو هالك لا محالة؛ ومن الناس من يحاسب حساب عرض، فيقرره الله سبحانه بذنوبه؛ ثم يغفر له ويتجاوز عنه؛ قال صلى الله عليه وسلم: ليس أحدٌ يحاسب يوم القيامة إلا هلك؛ فقالت أمّنا عائشة رضي الله عنها : ألم يقل الله تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً) ؛ فقال صلى الله عليه وسلم: إنما ذلك العرض ، ولكن من نوقش الحساب عُذِّب) . وفي ذلك الموقف تتجلى رحمة الرحيم الرحمن فيشمل بها بعض عباده؛ فيقرره بذنوبه ثم يتجاوز عنه ويغفر له؛ جاء رجل إلى عبد الله بن عمر فقال: جئت أسألك عن حديث المناجاة، فقال: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:  يُدْنِي الله المُؤْمِنَ، فَيَضَعُ عليه كَنَفَهُ ويَسْتُرُهُ، فيَقولُ: أتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ أتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ فيَقولُ: نَعَمْ أيْ رَبِّ، حتَّى إذَا قَرَّرَهُ بذُنُوبِهِ، ورَأَى في نَفْسِهِ أنَّه هَلَكَ، قالَ: سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ في الدُّنْيَا، وأَنَا أغْفِرُهَا لكَ اليَومَ، فيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ، وأَمَّا الكَفار والمُنَافِقُونَ، فينادى بهم على رؤوس الخلائق، فيَقولُ الأشْهَادُ: (هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ)

أيها الأخوة والأخوات في الله: ومن تمام عدل الله أن تحشر البهائم ويقع القصاص بينها؛ حتى إن الشاة التي لا قرن لها لتأخذ حقها من الشاة القرناء التي نطحتها في الدنيا؛ وهذا القصاص من باب المقابلة لا التكليف، ولإظهار عظيم عدل الله فإذا قضي بالحقوق بين البهائم العجماوات، فكيف بحقوق العباد ومظالمهم؟

وفي ذلك اليوم تنصب الموازين لِتوزَن أعمال الناس إظهاراً لعدل الله؛ قال تعالى: (وَنَضَعُ ٱلْمَوَٰزِينَ ٱلْقِسْطَ لِيَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْـًٔا ۖ وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍۢ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَٰسِبِينَ) فيوضع ميزان له كفتان؛ وتوزن به أعمال بني آدم؛ وليس شيء أثقل في ميزان العبد يوم القيامة من حسن الخلق؛ (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) وفي ذلك الموقف العظيم يعاني الناسُ من الشدة واللأواء، ويصيبهم الظمأ الشديد، فيمتن الله على نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بإعطائه حوضاً واسعَ الأرجاء، مسيرتُه شهر وماؤه أبيضُ من اللبن، وأحلى من العسل، وأطيبُ من المسك، تُرى فيه أباريق الذهب والفضة كعددِ نجوم السماء، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً، ويَرِدُ عليه أقوام من أمته، ثم يُحال بينهم، فيقول صلى الله عليه وسلم: إنهم مني، فيقال: (إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك)، فيقول: (سحقاً سحقاً لمن بدل بعدي).

إن النجاة من تلك الأهوال إنما تُنال برحمة الله، ثم بعملٍ صالح، والمقصِّرُ نادم لامحالة.

يوم لا تنفع فيه المعذرة، ولا يرتجى فيه إلا المغفرة، والحياة يا عبد الله طالت بك أو قصرت، فمصيرك إما إلى جنة وإما إلى نار عياذاً بالله، قال تبارك وتعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ)

اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك  اللهم أملأ أوقاتنا بالطاعات، ولا تشغلنا بالغفلات ولا بالمعاصي والسيئات والمحرمات برحمتك يا أرحم الراحمين.

نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم، وبهديِ سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنبٍ فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله وعد المتقين بفضله، وتوعد المعرضين بقهره، فقال:(تِلْكَ ٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِى ٱلأرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَٱلْعَـٰقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأزواجه وأصحابه ومن أهتدى بهديهم إلى يوم البعث والحشر والنشور.

أما بعد فيا أيها المسلمون: لو سأل كل واحد منا نفسه، لماذا لا يخاف كثير منا أهوال يوم القيامة، لماذا فسدت أحوالنا، وكثرت ذنوبنا، وقست قلوبنا، وضعفت نفوسنا؟  ذلكم لما نقص إيماننا بمعادنا، وضعف يقيننا بلقاء ربنا، وغلب رجاؤنا على خوفنا، فآثرنا الدنيا على الأخرى، ونسينا الطامة الكبرى، يوم يبعثر ما في القبور ويحصل ما في الصدور ويعلم المفرط أنه ما كان إلا في غرور .

أيها الأخوة والأخوات في الله: من أراد صلاح قلبه واستقامة أمره فليستحضر اليوم الآخر، ولقاء ربه تبارك وتعالى، ووقوفه بين يديه. (يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ، فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ، فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ، خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ، إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ، وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ)

فيا أخي المسلم ويا أختي المسلمة: تصور نفسك في القيامة، وأنت واقف بين الخلائق، ثم نودي باسمك: أين فلان ابن فلان؟ هلم إلى العرض على الله، فقمت ترتعد فرائصك، وتضطرب قدمك، وتنتفض جوارحك من شدة الخوف، وتصور وقوفَك بين يدي جبار السموات والأرض، وقلبك مملوء من الرعب، وطرفك خائف، وأنت خاشع ذليل، قد أمسكْتَ صحيفة عملك بيدك، فيها الدقيق والجليل،وقال ربك لك: (اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) فقرأتها بلسان كليل، وقلب منكسر، وداخَلَكَ الخجل والحياء من الله الذي لم يزل إليك محسناً، وعليك ساتراً. فبالله عليك! بأي لسان تجيبه حين يسألك عن قبيح فعلك، وعظيم جرمك؟ وبأي قدم تقف بين يديه؟ وبأي طرف تنظر إليه؟.

كيف بك يا عبد الله إذا قال لك جل جلاله: يا عبدي، ما أجللتني، أما استحييت مني؟ استخففت بنظري إليك؟ ألم أحسن إليك؟ ألم أنعم عليك؟ ما غرك بي؟ (يا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ* الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ* فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ)

أخي في الله: تذكر أهل الإيمان والعمل الصالح حين يخرجون من أجداثهم وقبورهم وقد ابيضت وجوههم بآثار الحسنات، لا يحزنهم الفزع الأكبر، وتتلقاهم الملائكة: هذا يومكم الذي كنتم توعدون.. تذكر عندما يقول الرب تبارك وتعالى بحقهم: يا ملائكتي، خذوا بعبادي إلى جنات النعيم، خذوهم إلى الرضوان العظيم، فأصبحوا بحمد الله في عيشة راضية، وفتحت لهم الجنان، وذهب عنهم النكد والنصب، وزال العناء والتعب.

وتذكر -أخي- في المقابل تلك النفس الظالمة المعرضة عن دين الله، عندما يقول الله تبارك وتعالى بحقها: يا ملائكتي، خذوه فغلوه، ثم الجحيم صلوه، فقد اشتد غضبي على من قَلَّ

حياؤه مني، فسيقت تلك النفس الآثمة الظالمة إلى نارٍ تَلَظَّى، وجحيمٍ تَغَيَّظ وتَزْفِر، وقد تمنت تلك النفس أنْ لو رجعت إلى الدنيا لتتوبَ إلى الله وتعملَ صالحاً.

وهيهات هيهات أن ترجع! فكبكبت على رأسها وجبينها في النار وهوت إلى أسفلِ الدركات، وتقلبت بين الحسرات والزفرات. فلا إله إلا الله! ما أعظمَ الفرقَ بين هؤلاء وأولئك وصدق الله تعالى إذ يقول:(إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) فاتقوا الله عباد الله،(وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)

اللهم قنا عذابك يوم تبعث عبادك، ونجنا من كرب يوم القيامة، وشدائد أهوال يوم الطامة، وارحمنا فإنك بنا راحم، ولا تعذبنا فأنت علينا قادر، وارفع مقتك وغضبك و سخطك عنا.

وبيض وجوهنا يوم تسود وجوه الكفار والمنافقين والعصاة في موقف الحسرة والندامة، وأظلنا تحت ظل عرشك، يوم لا ظل إلا ظلك،واسقنا من حوض نبيك محمد، شربة هنيئة لا نظمأ بعدها أبداً، واحشرنا في زمرته، ولا تحرمنا شفاعته يارب العالمين.

اللهم أعز الإسلام وانصر والمسلمين اللهم اجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين…

اللهم آمنا في وطننا وفي خليجنا واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين.اللهم وفق ولاة أمورنا وفق ملكنا حمد بن عيسى وولي عهده رئيس وزرائه سلمان بن حمد اللهم وفقهم لما تحب وترضى، وخذ بنواصيهم للبر والتقوى وهيئ لهم البطانة الصالحة الناصحة يارب العالمين. اللهم وفِّق المسئولين والعاملينَ والمتطوعين في فريق البحرين الوطني وأحفظنا وبلادنا وبلاد المسلمين والعالم أجمعين من الأوبئة وسيئ الأسقام والأمراض، ولا تؤاخذنا بذنوبنا وتقصيرنا، ومّن بالشفاء والعافية على المصابين بهذا البلاء والوباء، وعجل بانتهائه في القريب العاجل برحمتك وفضلك وجودك يا أرحم الراحمين.

اللهم ارفع عنا البلاء والوباء والكورونا، وعاملنا بما أنت أهله، ولا تعاملنا بمن نحن أهله، أنت أهل التقوى والمغفرة.

اللهم اسقنا الغيث، ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا وأغث قلوبنا بالإيمان والتقوى، وبلادنا بالأمطار والخيرات يارب العالمين.

اللهم كن لإخواننا المستضعفين في كل مكان ناصراً ومؤيداً، اللهم أحفظ بيت المقدس والمسجد الأقصى، وأهله، واجعله شامخاً عزيزاً عامراً بالطاعة والعبادة إلى يوم الدين…اللهم فرج الهم عن المهمومين ونفس الكرب عن المكروبين، واقض الدين عن المدينين واشف مرضانا ومرضى المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم إن لنا أحباباً قد فقدناهم وفي التراب وسدناهم اللهم فأجعل النور في قبورهم يغشاهم واكتب ياربنا الجنة سكنانا وسكناهم، وأكتب لنا في دار النعيم لقياهم إنك مولانا ومولاهم.

الْلَّهُمَّ صَلِّ وَسَلَّمَ وَزِدْ وَبَارِكَ عَلَىَ سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَىَ آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)

     خطبة جامع الفاتح الإسلامي – عدنان بن عبد الله القطان – مملكة البحرين